هنالك عوامل كيرة أدت إلى تراجع الأمة وفى ثناياها ضاعت الحقيقة الإسلامية وشملت تلك العوامل : التناقض في الخطاب والتعامل مع الخلافات من منطلق التصادم ثم وقوع العالم الإسلامي تحت نير الاستبداد وأخيرا الحرب الباردة القائمة بين نهجى الانكفاء والاستلاب وتتناول حلقة اليوم والحلقات التي تليها النهج المعتدل الذي يحقق روح الإسلام ويعتمد على الوسطية والنظرة الشاملة التي تنظر إلى المقاصد الكلية التي جاء بها الإسلام.
أهمية الدين في حياة الإنسان :
الاعتقاد الديني يلازم الإنسان حيثما وجد فهو قدر الإنسان ومطلب من مطالبه الفطرية , فتكوين الإنسان المركب من المادة والروح يجعل النزعات متعارضة , والرغبات متنوعة , مما يخلق جدلاً داخل الإنسان لا يهدأ إلا بعد أن يجد تفسيراً مقبولاً لهذا التناقض , فالإنسان بحكم تكوينه معرض لنزعات نفسية متعددة ومتعارضة ( الحزن والفرح , الغضب والرضا , الحب والكره , اليأس والأمل ...الخ ) هذه الثنائيات تقلق مضجعه وترهق ذهنه فالاعتقاد الديني هو الوحيد القادر على تفسير مقنع يطمئن إليه الإنسان , قال تعالى : #64831; الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ #64830; [ الأنعام : 82 ] والإنسان لا يمكن أن يعيش إلا في وسط مجتمع يتبادل معه المصالح ومن الطبيعي أن تتعارض هذه المصالح والدين هو القادر على تنظيم هذه العلاقات وحمل الإنسان على عدم التعدي على حقوق الآخرين لأنه إذا استقر في نفس الإنسان سوف ينمي فيه عنصر الرقابة الذاتية وهي إن صدقت فأثرها أكبر من الرقابة القانونية , والأجهزة الرقابية. قال صلى الله عليه وسلم عن الإحسان : (( أن تعبـد الله كأنك تراه فإن لم تكـن تراه فإنه يـراك)) . والإنسان دائماً يتطلع إلى المعرفة حيث يسعى لإدراك كنه الموجودات التي تعيش معه , ويتساءل عن هذا الكون : بدايته ووظيفته ومآله وعلاقته به , هذه التساؤلات وتلك التطلعات لا يجيب عليها إلا شيئ يطمئن إليه الإنسان ويصدقه والدين هو من يقوم بهذا الدور " العقائد الدينية أعطت الإنسانية الطمأنينة النفسية , والرقابة الذاتية ( الضمير ) والتحصين الأخلاقي , والهوية الجماعية " وعليه فإن الإنسان حيثما وجد ارتبط بعقيدة دينية إما عن طريق خطاب الله للإنسان وإما عن طريق سعي الإنسان نحو المثال المطلق , والدين نشأ عن هذين الأسلوبين , فخطاب الله للإنسان ثمرته الأديان السماوية , وسعي الإنسان نحو المثل الأعلى ثمرته النحل الوضعية , يتضح مما سبق أن الدين له أهمية كبيرة في حياة الإنسان بل هو ضرورة نفسية وضرورة اجتماعية وضرورة كونية قال الشاعر الباكستاني الفيلسوف محمد إقبال :
إذا الإيمان ضاع فلا حيـاة ولا دنيـا لمن لم يحيى دينا
ومن رضي الحياة بغير دين فقد جعل الفناء لهـا قرينا
وأكد القرآن الكريم هذا المعنى قال تعالى : #64831; وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ #64830; [ الجاثية : 24 ]
الإسلام وعلاقته بالرسالات السابقة :
دين الله مصدره واحد , فهو سبحانه وتعالى اصطفي الأنبياء والرسل وأرسلهم على فترات لهداية البشر إلى الصراط المستقيم ولإخراجهم من الظلمات إلى النور , والمجتمعات البشرية مرّت بنفس المراحل التي يمر بها الإنسان الفرد : مرحلة التكوين فالميلاد فالطفولة فالتعلم فالتجارب فالنضج وكل مرحلة أنزل الله لها ما يلائمها من تشريع ولذلك نجد أن خطاب الأنبياء اتفق على العقائد وتنوع في التشريعات , فنوح عليه السلام ركز على التوحيد ونفي الشرك والمساواة بين الناس لأنه أول رسل الله بعد آدم عليه السلام , وهود وصالح بعد التوحيد كان اهتمامهما يتركز على إبراز مظاهر قدرة الله , وذلك لمخاطبة قوم اغتروا بقوتهم وقدرتهم , وشعيب ركز على محاربة الفساد الاقتصادي , ولوط كانت دعوته موجهة ضد الانحلال الخلقي والشذوذ , وموسى استهدف إبطال السحر وهكذا.. مع إجماعهم على توحيد الله كان كل رسول يخاطب قومه بما يعالج المشاكل التي يعيشونها فالدين واحد والتشريعات مختلفة قال تعالى : #64831; شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ#64830; [ الشورى : 13 ] إن رسالة الإسلام التي جاء بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم جاءت متضمنة لأصول الرسالات السابقة ومصدقة لها فهي الحلقة الأخيرة في سلسلة الوحي الإلهي وأكد هذا المعنى الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : (( مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنياناً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة ؟ قال : فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين )) .
ما تميز به الإسلام :
لقد تبين مما سبق أن الإسلام جاء مكملاً للرسالات السابقة متضمناً لأصولها ومصدقاً لها ولكنه باعتباره الدين الخاتم فقد اختص بالآتي :
أولاً : العالمية
كانت الرسالات السابقة محدودة المكان ومحدودة الزمان ومقتصرة على قوم دون غيرهم , والقضايا التي جاءت من أجلها محددة ولكن الإسلام جاء ديناً عاماً يخاطب كل الناس عبر العصور , وعالمياً لا يعرف الحدود المكانية ولا الزمانية , وأممياً لا يقتصر على قوم دون غيرهم , وشاملاً يخاطب كل قضايا الإنسان واهتماماته العقائدية والعبادية والسلوكية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها من مطالب الإنسـان .
ثانياً : الختام
رسالة الإسلام جاءت رسالة خاتمة لا تعقبها رسالة أخرى لأن الله سبحانه وتعالى الذي خلق الخلق يعلم ما يصلحهم فتكفّل بإرسال الرسل إليهم متدرجاً معهم في كل المراحل , فلما وصلت البشرية مرحلة النضج أنزل إليها الرسالة الخاتمة قال تعالى : #64831; مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَـانَ اللَّهُ بِكُـلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا #64830; [ الأحزاب : 40 ] .
ثالثاً : التيسير
الرسالات السابقة كانت متشددة مع أتباعها وأحكامها شاقة , وعقوباتها قاسية , فكل شخص كان لديه مكان معين يتعبد فيه لا يجوز له أن يتعبد في غيره , والنجاسة لا يزيلها الماء من الثوب أو البدن , ومرتكب الكبيرة تعجل عليه العقوبة في الدنيا , ومن أراد أن يتوب فتوبته أن يقتل نفسه , قال تعالى : #64831; وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ #64830; [ البقرة : 54 ] هذه المشاق رفعت عن الناس في رسالة الإسلام فالتكاليف ميسرة , وتتصف بالمرونة فمن لم يجد الماء ينتقل إلى التيمم , ومن لم يستطع القيام يصلي جالساً أو متكئاً أو راقداً أو بالإشارة , والتوبة متاحة لكل الناس ما لم تصل الروح إلى الحلقوم , ومن مبادئ الإسلام التيسير ورفع الحرج والتدرج ومراعاة الـواقع ..الخ قال تعالى : #64831; الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبائث وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَـانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُـواْ النُّورَ الَّـذِيَ أُنزِلَ مَعـَهُ أُوْلَئِكَ هُـمُ الْمُفْلِحُـونَ #64830;[ الأعراف : 157 ] وتميّز الإسلام بخصائص كثيرة كلها تدخل في باب التكريم لهذه الأمة والتخفيف عنها وقد وردت هذه الخصائص في آيات كثيرة مثل الآية السابقة وأحاديث كثيرة منها : عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قـال : (( أعطيتُ خمساً لم يعطهن أحدٌ قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر , وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيّما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل , وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي , وأعطيت الشفاعة , وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة )) فالله سبحانه وتعالى أكرم هذه الأمة بالرسالة الخاتمة التي جاءت رحمة للعالمين ونعمة للمسلمين قال تعالى : #64831; وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ #64830; [ آل عمران : 103 ] ومن خصائص هذه الرسالة أنها جعلت العادات البشرية عبادات إذا اقترنت بالنية الخالصة لله ولم تتصادم مع تعاليم الدين , فالأكل إذا قصد به بناء الطاقة التى تساعدعلى الطاعة يكون عبادة , والزواج إذا قصد به التحصين وبناء الأسرة الصالحة يكون عبادة والتبسم في وجه الأخ صدقة , وهكذا.. يسّر الإسلام طرق الطاعات وسهّل دخول الجنة على الراغبين عن أبي ذر ، أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ذهب أهل الدثـور بالأجور ؛ يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ؛ ويتصدقون بفضول أموالهم ؛ قـال : ((أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون ؟ إن بكل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن منكر صدقة وفي بضع أحدكم صدقة ؛ قالوا يا رسول الله : أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟! قال : أرأيتم إذا وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجراً )) فالرسالة الخاتمة هي خيار العقلاء وحصن النجاة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
وطن